الجمعة، 31 أكتوبر 2014

الغدر… ليس من أخلاق الإسلام

إن الغدر خلق ذميم من أخلاق المنافقين؛ وسمة من سمات الجاهلين؛ وصفة من صفات السافلين.
فهو مسبشع في الفطر السليمة؛ ومستقبح عند ذوي الأخلاق السوية؛ وتأباه النفوس الكريمة؛ وينأى عنه ذوي المرؤآت الأبية.

وهو محرم في جميع الشرائع؛ ومذموم في كل الأعراف والأنظمة.
وليس الغدر من أخلاق الأنبياء ولا من أخلاق أتباعهم، وقد أدرك ذلك هرقل عظيم الروم حينما سأل أبو سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلا له: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. رواه البخاري.
وقد حرم الإسلام الغدر أشد التحريم، وجعله من عظائم الذنوب ومن كبائره، ورتب عليه الوعيد الشديد؛ فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وعن أَبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:  لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ أِسْتِهِ يومَ القِيَامَةِ؛ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدَرِ غَدْرِهِ، ألا وَلا غَادِرَ أعْظَمُ غَدْراً مِنْ أمِيرِ عَامَّةٍ. رواه مسلم.
وروى الحاكم في المستدرك (4/ 393) عن عامر بن شداد قال : كنت أبطن شيء بالكذاب أدخل عليه بسيفي، فدخلت عليه ذات يوم فقال: جئتني والله و لقد قام جبريل عن هذا الكرسي؛ فأهويت إلى قائم سيفي فقلت : ما أنتظر أن أمشي بين رأسه وجسده حتى ذكرت حديثا حدثناه عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: إذا اطمأن الرجل إلى الرجل ثم قتله بعدما اطمأن إليه؛ نصب له يوم القيامة لواء غدر . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قال العلامة ابن دقيق العيد:
فيه تعظيم الغدرة و ذلك في الحروب كل اغتيال ممنوع شرعا إما لتقدم أمان أو ما يشبهه أو لوجوب تقدم الدعوة حيث تجب أو يقال بوجوبها.
و قد يراد بهذا الغدر ما هو أعم من أمر الحروب وهو ظاهر اللفظ و إن كان بين المشهور بين جماعة من المصنفين وضعه في معنى الحرب، و قد عوقب الغادر بالفضيحة العظمى و قد يكون ذلك من باب مقابلة الذنب بما يناسب ضده في العقوبة فإن الغادر أخفى جهة غدره و مكره فعوقب بنقيضه وهو شهرته على رؤوس الأشهاد.ا.هـ
والغادر لمَّا عظم جرمه؛ وكبر خطره؛ كان خصمه يوم القيامة عند الحساب رب العالمين تبارك وتعالى؛ فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ.
وإن من أبين صفات المنافقين وأشهر خلالهم اتصافهم بالغدر؛ فلا يعبأون بعهد؛ ولا يوفون بوعد.
روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
ولما كان الغدر صفة ذميمة وخلق قبيح؛ كان من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمرائه على الجيوش أن لا يغدروا؛ فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَمْثُلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا…
وقد امتثل ذلك أمراء المسلمين فلم يغدروا ولم ينقضوا عهداً، ولما أراد معاوية رضي الله عنه أن يتعجل في غزو الروم وقد كان بينهم عهد لم ينته أجله نهاه عمرو بن عبسة عن ذلك وذكره بوجوب الالتزام بالعهود فكف معاوية عن الغزو.
روى أبو داود في سننه والبيهقي في شعبه عَنْ أَبِي الْفَيْضِ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَتَعَجَّلَ شَهْرًا . قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ فِي أَرْضِ الرُّومِ عَلَى بِرْذَوْنٍ، يَقُولُ: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ . فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ، فَدَعَاهُ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ” مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ عُقْدَةً حَتَّى يَنْقَضِي أَمَدُهَا أَوْ يُنْبِذُ إِلَيْهِمْ سَوَاءٌ “قَالَ: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالْجُيُوشِ.
بل كان صفة الغدر من أبعد ما كان عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأشنع شيء عندهم؛ حتى وإن كانوا في أحلك المواقف وأشدها؛ يؤيد ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من قصة خبيب بن عدي حينما أسره كفار قريش وأرادوا قتله؛ فبينما هو في أسره قبيل قتله طلب من بِنْتَ الْحَارِثِ مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، قالت: فَأَخَذَ ابْنًا لِي وَأَنَا غَافِلَةٌ حِينَ أَتَاهُ، قَالَتْ فَوَجَدْتُهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: تَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؛ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ.
وقد ورد التوجيه الرباني في القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا أحس من قوم خيانة وعدم التزام بالعهود فلينبذ إليهم عهدهم وليعلمهم بأن عهده غير ملتزم به حتى يكونوا على علم؛ ولكي لا يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر؛ دل على ذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:
يقول تعالى لنبيه، صلوات الله وسلامه عليه { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ } قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي: نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود، { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } أي: عهدهم { عَلَى سَوَاءٍ } أي: أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك.
وقال العلامة السعدي:
وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. { عَلَى سَوَاءٍ } أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك. { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } بل يبغضهم أشد البغض،فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة… ودل مفهومها أيضا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته.
فهذا هو موقف الإسلام من الغدر؛ وهذا هو تحذيره منه وتنفيره عنه؛ ومن ادعى أن الغدر من صفات المسلمين فقد افترى كذبا عظيماً؛ وتقول على الله وعلى رسوله الكذب.
وليس الغدر من أخلاق المجاهدين في سبيل الله؛ ولا من صفات عباد الرحمن، ومن قتل المعاهدين والمستأمنين في ديار الإسلام أو فجر أماكنهم التي يجتمعون فيها فليعلم أنه ممن ينصب له لواء الغدر يوم القيامة؛ وليس عمله من الإسلام في شيء.
منقول 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق