الثلاثاء، 23 يونيو 2015

لعفو

د/ أحمد صالح آل زارب

العفو لغة:
من عفا وعفا عن ذنبه تركه ولم يعاقبه،وعفا الله عنك أي محا ذنوبك وعفوت عن الحق أسقطته كأنك محوته عن الذي هو عليه).
والعفو:
هو إسقاط عن الغير عند التمكن من أخذه)،وكأن يعفو عن قصاص أو إساءة أو يتمكن من عدو لدود فيصفح عنه،وبهذا لا يسمى عفواً من عفا قبل التمكن.وقد ندب الله المسلمين إلى العفو والصفح،ومقابلة الإساءة بالإحسان،فقال تعالى واصفاً المتقين من أهل الجنة بقوله:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وقال تعالى:{ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.وقال تعالى:{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.
والعفو يدل على نبل الأخلاق ودماثتها،وطيب سجايا العافين،وانتصارهم على هوى النفس وحمية الانتقام،والعفو له وقع كبير في نفس المعفو عنه،بل قد تنقلب عداوته إلى مودة حميمة كما قال تعالى:
{ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
والعفو والسماحة،لا يسكنان إلا قلباً خالياً من الأحقاد والإضغان،ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لا بد أن يكون نظره إلى ما هو أمامه،ولا ينظر إلى الوراء والأحقاد والأضغان،ومحاسبة كل امرئ على ما كان منه، إنما هي تشد بصاحبها إلى الوراء،فلا يكون تفكيره إلى ما يجب عليه القيام به في المستقبل،بل يكون تفكيره في شفاء غيظه من أسقامه،التي كانت في الماضي،ومن يأتي برسالة داعياً إلى الحق لا يكون دبري النفس،يشغله الماضي عن الحاضر،بل يكون عاملاً للمستقبل)،فلا غرابه إذن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة والأسوة المثلى في عفوه عن الناس،لكمال خلقه،وما للعفو من أثر كبير في قلوب الناس،واستمالتهم نحو العافي الذي ما أرسل إلا ليكون القدوة في ذلك،والرحمة للعالمين.
وندرج نماذج من عفوه صلى الله عليه وسلم وسماحته التي كسب بها ود من هدام الله تعالى به:
ـ عفوه عن قريش رغم كل ما كادوه به من أذى وقتل وقتال، ورغم كل الوسائل الصد التي استخدموها ضده وضد دعوته في مكة والمدينة، فمازاد أن قال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء " بعد أن نصره الله تعالى عليهم ودخل مكة عنوة وملك رقابهم، فكان هذا العفو سبباً في دخولهم الإسلام، وذهاب غيظهم، وقناعتهم بنصحه لهم وشفقته عليهم).
ـ عفوه عن الرجل الذي قال له عنده قسمة غنائم حنين:اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فلم يزده عن أن قال له"ويحك فمن يعدل إن لم أعدل،خبت وخسرت إن لم أعدل "ونهى أصحابه عن قتله مع استحقاقه لذلك).
ـ عفوه عن غورث بن الحارث،عندما تسلل إليه وهو نائم تحت شجرة وحده، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فإذا هو بغورث قد اخترط السيف صلتا وهو يقول:من يمنعك مني ؟ فقال له:"الله" فسقط السيف من يده وأخذ يرتجف فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وجاء إلى قومه،فقال:جئتكم من عند خير الناس .
ـ عفوه عن المرأة اليهودية التي أهدت له شاة مسمومة فأكل منها ثم أمسك،بعد أن أعلمه الله تعالى بذلك،فلم يقتلها غضباً لنفسه،فلما مات بشر بن البراء الذي أكل منها معه،قتلها به).
-عفوه عن ثمامة بن أثال،وكان من رؤساء بني حنيفة وأشرافهم، فكان ذلك سبباً في إسلامه، وفرضه حصاراً على قريش ، والقصة ما يرويها البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبيل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية المسجد،فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ماذا عندك يا ثمامة؟) فقال :
(عندي خير،يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم،وإن تنعم تنعم عن شاكر،وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت) فتركه حتى كان بعد الغد، ثم قال له : ( ما عندك يا ثمامة؟) فقال ( ما قلت لك ، إن تنعم تنم على شاكر) فتركه حتى كان بعد الغد ، فقال ( ما عند يا ثمامة؟).فقال (عندي ما قلت لك) فقال : (أطلقوا ثمامة) فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد فقال : أشهد إن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض أبغض إلي من وجهك فقط أصبح وجهك أحب الوجوه إلي،والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك،فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك،فأصبح بلدك أحب ألي،وإن خيلك أخذتني وأنا لا أريد العمرة،فما ترى؟فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر،فلما قدم مكة قال له قائل:صبوت؟
قال: لا والله ولكن اسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم).
فهل يا ترى هناك ثمرة تعدل العفو عنه ؟ فلو كان قتله أو فاداه ما كان يتحقق من الإيجابيات ما حققه النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنه.
-عفوه عن الإعرابي الذي قدم المدينة قاصداً قتله بدفع من أبي سفيان بن حرب، فكشف أمره ، وعفا عنه).
ـ وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الجمحي قال"لما كان عام الفتح،دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنة،قلت أسير مع قريش إلى هوازن بحنين،فعسى إن اختلطوا أن أطيب من محمد غرة،فأثار منه،فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها،وأقول:لو لم يسبق في العرب والعجم أحد إلا تبع محمداً،ما تبعته أبدا وكنت مرصداً لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة،فلما اختلط الناس،اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته فأصلت السيف،فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت بسيفي حتى كدت أشعره إياه فرفع بي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني،فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه ، فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني
(يا شبيب ادن مني؟) فدنوت منه،فسمح صدري ثم قال : اللهم أعذه من الشيطان ) قال : فوالله لو كان ساعتئذ أحب إلي من سمعي ، وبصري ونفسي وأذهب الله ما كان في نفسي ، ثم قال ( ادن فقاتل ) فتقدمت أمامه اضرب بسيفي والله يعلم أني أ حب أن أقيه بنفسي كل شيء،ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حياً لأوقعت به السيف،فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكروا كرة رجل واحد،وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوى عليها،وخرج في إثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ورجع إلى معسكره. فدخل خباءه فدخلت عليه،ما دخل عليه أحد غيري حباً لرؤية وجهه، وسروراً به،فقال(يا شيب،الذي أراد بك الله خير مما أردت لنفسك)ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لا حد قط،قال:
فقلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله ، ثم قلت استغفر لي فقال
( غفر الله لك).
- عفوه عن لبيد بن الأعصم الذي سحره فلم يؤاخذه ولا عتب عليه فضلاً عن أن يعاقبه).
- صفحة عن عبد الله بن أبي بن سلول على رغم كل ما بدر منه من دس وكيد ومكر، وثبوتها ضده بشهادة الوحي والناس).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق